يأتي اليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، في ظل تحديات كثيرة، حيث يتسارع حضور الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا اليومية.. من التعليم إلى العمل والثقافة العامة وصولا إلى الاقتصاد والترفيه. لذا تجد اللغة العربية نفسها أمام تحد مختلف يضاف إلى سلسلة طويلة من التحديات التي واجهتها عبر قرون، لكنه في هذه الحالة يتحول من تحديد إلى تهديد، أو يمكن أن نقول اختبار يحمل في طياته التهديد بقدر ما يحمل من الفرص.
أولى التحديات التي تواجه اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي تتمثل في محدودية حضور اللغة العربية في تقنيات الذكاء الاصطناعي مقارنة باللغات العالمية الكبرى مثل اللغة الانجليزية مثلا. فما زالت هناك فجوة واضحة في جودة المعالجة الآلية للنصوص العربية سواء على مستوى الفهم الدلالي أو الترجمة الواضحة أو التعرف الصوتي، ويعود ذلك إلى تعقيد بنية الصرف والنحو للغة العربية، إضافة إلى ضعف المحتوى الرقمي العربي قياسا بحجم المتحدثين بها من جانب ومقارنة بحجم المحتوى الرقمي باللغات الأخرى.
هناك أيضا تحد آخر لا يقل خطورة عن التحدي السابق، ويتمثل في هيمنة اللهجات العامية واللغات الأجنبية بين العرب أنفسهم على الفضاء الرقمي وهو ما يهدد اللغة العربية الفصحى، خاصة بين الأجيال الجديدة التي تتفاعل يوميا مع منصات رقمية تعتمد لغة هجينة من الحروف اللاتينية او الحروف العربية بالعامية أو محتوى غير عربي. ومع توسع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي يصبح الخطر مضاعفا إذا لم يتم تغذية هذه الأنظمة بمحتوى عربي رصين يعكس عمق اللغة الفصحى وجمالياتها ومقاصد كلماتها بوضوح.
لكن من وجهة نظري إن هناك الكثير من الفرص للغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي لكن بشروط. فالذكاء الاصطناعي رغم ما يحمله من تحديات يفتح في الوقت ذاته آفاقا واسعة لإنقاذ اللغة العربية وتجديد حضورها الرقمي بشكل واسع. فالتقنيات الحديثة قادرة على تطوير أدوات تعليم ذكية ومعاجم رقمية تفاعلية وأنظمة تدقيق لغوي متقدمة إضافة إلى دعم الترجمة الآلية عالية الجودة ونشر المعرفة باللغة العربية على نطاق عالمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في حفظ التراث العربي المخطوط والشفهي وإتاحته للأجيال القادمة بصيغ رقمية حديثة تتضمن التحليل والنطق.
ما يمكن الجزم به في ظل هذا التسارع التكنولوجي أن التحدي الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها بل في كيفية تعاملنا معها. فغياب السياسات اللغوية الواضحة وضعف الاستثمار في البحث العلمي اللغوي وتشتت المبادرات الفردية الهادفة إلى دعم انتشار اللغة العربية، كلها عوامل تزيد من الفجوة بين اللغة العربية والتحولات الرقمية المتسارعة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى وجود شراكة حقيقية في الافكار والميزانيات ودعم المبادرات بين المؤسسات الثقافية والجامعات وشركات التكنولوجيا لوضع اللغة العربية في قلب مشروع الذكاء الاصطناعي.. لا على الهامش.
أكرر مرة أخرى.. أننا في اليوم العالمي للغة العربية لا يكفينا الاحتفاء الرمزي بتاريخ لغة الضاد.. بل يجب تحويل هذا اليوم إلى محطة مراجعة جادة لواقعها ومستقبلها. فاللغة التي حملت الفلسفة والعلوم والشعر والتراث عبر العصور قادرة.. إذا ما أحسننا توظيف التكنولوجيا.. على أن تكون لغة المعرفة والابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي.


