يتعرض بعض المصلين في أثناء الذهاب إلى المساجد أن يصيبهم طين الشوارع، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول تأثير ذلك على الطهارة وصحة الوضوء، وما إذا كان يستوجب إعادة الوضوء قبل الصلاة.
وفي هذا السياق كشفت دار الإفتاء عن الحكم الشرعي المتعلق بإصابة طين الشوارع للجسد أو الملابس، مبينة الضوابط الفقهية التي يُبنى عليها الحكم، وما يجب على المسلم فعله في مثل هذه الحالات.
هل طين الشوارع نجس وينقض الوضوء؟
وفي إطار بيان الأحكام الشرعية، أكدت دار الإفتاء أن طين الشارع الأصل فيها الطهارة، فإذا أصاب الوحلُ المصلي في بدنه أو ثيابه أو حذائه فهو طاهر، ما لم تكن عَيْنُ النجاسة ظاهرة فيه، فيجب حينئذ إزالتها، أمَّا إذا لم ير عينها فمعفو عنها ولا يلزم المكلف شيء بخصوصها، وفي كل الأحوال لا تكون إصابته بالطين ناقضًا للوضوء أو موجبًا له بحالٍ من الأحوال.
أثر طين الشوارع على صحة الوضوء
وأكدت دار الإفتاء، في فتوى رسمية على موقعها الإلكتروني، أنه إذا أصاب المسلمَ شيء من طين الشارع بعد سقوط المطر، فالأصل في الطين الناتج عن امتزاج تراب الأرض مع مياه الأمطار الطهارة؛ لِأَنَّه اختلاط مَاءٍ طَاهِرٍ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48].
واستشهدت دار الإفتاء بآراء عدد من العلماء ومنهم:
قال الإمام البَغَوِي في “معالم التنزيل” (3/ 448، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾، والطهور هو: الطاهر في نفسه الْمُطَهِّرُ لغيره، فهو اسم لما يُتَطَهَّرُ به] اهـ.
وروى سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي… وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ» متفق عليه.
حكم الوضوء بعد الإصابة بطين الشوارع
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” (1/ 438، ط. دار المعرفة): [اسْتُدِلَّ به على أنَّ الطَّهُورَ هو الْمُطَهِّرُ لغيره؛ لِأَنَّ الطَّهُورَ لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سِيقَ لإثباتها] اهـ.
فإذا هَمَّ الْمُكَلَّفُ بأداء الصلاة وقد أصاب ثيابه أو بدنه هذا الْوَحْلُ؛ فصلاته صحيحة ووضوؤه باقٍ؛ لأن الأصل طهارة طين الشوارع ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بيقين.
أمَّا إذا كان الطين مختلطًا بنجاسةٍ ظاهرةٍ عَيْنُهَا: وَجَبَ على الْمُكَلَّفِ إزالة عين النجاسة التي عَلِقَتْ بثيابه أو بدنه، وغَسْلُ محلها ما أمكن ذلك، ولا تُؤَثِّرُ إصابة النجاسة في وضوء الْمُكَلَّفِ؛ إذ ليست النجاسة من نواقض الوضوء، فلا ينتقض بها.
قال الإمام الشُّرُنْبُلَالِي الحنفي في “مراقي الفلاح” (ص: 66، ط. المكتبة العصرية): [وردغة الطين والوَحْل الذي فيه نجاسة عفو، إلا إذا علم عين النجاسة للضرورة] اهـ.
هل إذا أصابني طين الشوارع ينقض الوضوء؟
وقال الإمام الحَطَّاب المالكي في “مواهب الجليل” (1/ 150-151، ط. دار الفكر): [ص: (وكطين مَطَرٍ، وإن اختلطت الْعَذِرَةُ بالمصيب)، ش: قال في “الْمُدَوَّنَةِ”: ولا بأس بطين المطر المستنقع في السكك والطرق يصيب الثوب، أو الخف أو النعل، أو الجسد، وإن كان فيه الْعَذِرَةُ وسائر النجاسات وما زالت الطرق وهذا فيها وكانت الصحابة يخوضون في طين المطر ويصلون ولا يغسلونه… وأشار بقوله: (ولا إن أصاب عينها) إلى أنَّه لا يُعْفَى عَمَّنْ أصابته عين النجاسة] اهـ.
وقال الإمام ابن حجر الهَيْتَمِي في “تحفة المحتاج” (2/ 129-130، ط. المكتبة التجارية) [(وَطِينُ الشَّارِعِ) يعني محل المرور ولو غير شارع كما هو ظاهر، (المتيقن نجاسته)، ولو بِمُغَلَّظٍ ما لم تبق عينه مُتَمَيِّزَةً، وإن عَمَّتِ الطريق على الأوجه… (يُعْفَى عنه)، أي: في الثوب والبدن وإن انتشر بِعَرَقٍ أو نحوه مما يحتاج إليه نظير ما يأتي، دون المكان كما هو ظاهر؛ إذ لا يعم الابتلاء به فيه، (عما يتعذر الاحتراز عنه غالبًا) بأن لا يُنسب صاحبه لسقطة أو قلة تحفظ وإن كثر… أي: أن زيادة المشقة توجب عد ذلك قليلًا، وإن كثر عرفًا] اهـ.
وقال الإمام البُهُوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (1/ 193، ط. عالم الكتب): [(وطين الشارع وترابه طاهر) وإن ظُنَّتْ نجاسته؛ لأنَّ الأصل الطهارة (ما لم تُعْلَم نجاسته) فَيُعْفَى عن يسيره] اهـ.
أمَّا إذا اختلط الطين بنجاسة خَفِيَّةٍ لا تُرَى عَيْنُهَا، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الْمُكَلَّفُ منها أو غَلَبَ على ظَنِّه وجودها، فهو مَعْفُوٌّ عنها مطلقًا للضرورة عند الحنفية (وهو المختار للفتوى)، واشترط المالكية ألَّا تكون النجاسة غالبة، بينما اشترط الشافعية أن يعسر الاحتراز منها في الثوب أو البدن لا المكان، واشترط الحنابلة أن يكون الطين المصيب يسيرًا.
قال الإمام ابن عابدين الحنفي في “ردِّ المحتار على الدر المختار” (1/ 324، ط. دار الفكر): [(قوله: وطين شَارِعٍ) مبتدأ، خبره قوله: عفو، والشارع الطريق ط. وفي “الفيض”: طين الشوارع عفو، وإن ملأ الثوب للضرورة ولو مختلطًا بِالْعَذِرَاتِ وتجوز الصلاة معه. اهـ].
وقال الشيخ الدردير المالكي في “الشرح الكبير” (1/ 74، ط. دار الفكر): [(و) عُفِيَ عن (كطين مطر) أَدْخَلَت الْكَافُ ماءَ المطر وماءَ الرش، وَيُقَدَّرُ دخولُ الكاف على مطر أيضا فيدخل طين الرش ومستنقع الطرق يصيب الرجل أو الخف أو نحو ذلك، (وإن اختلطت العذرة) أو غيرها من النجاسات يقينًا أو ظنًّا (بالمصيب) والواو للحال لا للمبالغة؛ إذ لا محل للعفو عند عَدَمِ الاختلاط أو الشك؛ لِأَنَّ الأصل الطهارة، ثم إذا ارتفع المطر وجف الطين في الطرق وجب الغسل (لا إن غلبت) النجاسة على كالطين، أي: كثرت، أي: كانت أكثر تحقيقًا أو ظنًّا من المصيب كنزول المطر على محل شأنه أن يطرح فيه النجاسة، فلا يُعْفَى عمَّا أصابه على الراجح].
وقال الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي في “نهاية المحتاج” (2/ 27-28، ط. دار الفكر): [(وطين الشارع)، أي: محل المرور، وإن لم يكن شارعًا، (الْمُتَيَقَّنُ نجاسته) ولو بإخبار عَدْلٍ رِوَايَةً فيما يظهر، فالمراد باليقين ما يفيد ثبوت النجاسة (يُعْفَى منه عما يتعذر)، أي: يتعسر (الاحتراز عنه غالبًا)، وإن اختلط بمغلظ كما رجحه الزَّرْكَشِي وغيره].
وقال الإمام البُهُوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (1/ 192): [(و) يُعْفَى (عن يسير طين شارع تَحَقَّقَتْ نجاسته)، لمشقة التَّحَرُّزِ منه] اهـ.


