أصدر مركز انطلاق للفكر والدراسات الاستراتيجية «تقرير أداء قطاع السياحة في مصر»، وهو تقرير تحليلي شامل قائم على البيانات، يستعرض مسارات تطوير قطاع السياحة المصري من خلال التحول الرقمي، والابتكار في تكنولوجيا السياحة (Tourism Tech)، وتعزيز النمو الشامل.
وجاء إصدار التقرير بالشراكة مع مدينة الجونة بصفتها الراعي البلاتيني، في إطار إبراز دورها كنموذج وطني للسياحة المستدامة المعتمدة على التكنولوجيا.
ويأتي التقرير في توقيت محوري لقطاع السياحة، حيث استقبلت مصر خلال عام 2024 نحو 15.7 مليون سائح دولي، وهو أعلى رقم في تاريخها، بينما يسهم القطاع بنحو 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويحقق عوائد سنوية من النقد الأجنبي تتراوح بين 14 و15 مليار دولار، ويوفر بصورة مباشرة وغير مباشرة قرابة 2.5 مليون فرصة عمل.
ورغم هذا التعافي القوي، يشير التقرير إلى أن متوسط القيمة المضافة لكل سائح لا يزال أقل من الإمكانات المتاحة، ما يحد من مكاسب الإنتاجية والاستدامة على المدى الطويل.
وأوضح التقرير أن التحدي الرئيسي لم يعد مرتبطًا بجذب الطلب أو القدرة التنافسية العالمية، وإنما بخلق قيمة أعلى من النشاط السياحي، لافتًا إلى أن غياب إصلاحات منسقة تشمل الحوكمة، ومنظومة التراخيص، والبنية التحتية الرقمية، وتمكين المشروعات الصغيرة والمتوسطة، قد يُبقي النمو السياحي محدود الأثر ومتركزًا. وأكد أن تبني نهج وطني موحد قائم على التحول الرقمي وتكنولوجيا السياحة يمكن أن يضاعف المساهمة الاقتصادية للقطاع بحلول عام 2030، وينقل السياحة من نموذج قائم على الكم إلى محرك نمو عالي القيمة قائم على الابتكار.
وسلط التقرير الضوء على الدور المحوري للمشروعات السياحية الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة، باعتبارها العمود الفقري لاقتصادات السياحة عالميًا، محذرًا من أن تعقيد الأطر التنظيمية، وضعف أدوات التمويل، وتجزؤ الأنظمة الرقمية، يؤدي إلى تراجع الأداء العام للقطاع.
وأشار إلى أن معالجة فجوة «الحلقة المفقودة» في دعم هذه المشروعات لا تتعلق فقط بالشمول، بل ترتبط مباشرة بالإنتاجية والقدرة على الصمود وتعزيز تنافسية المقصد السياحي المصري.
وفي هذا السياق، استعرض التقرير تجربة مدينة الجونة كنموذج تطبيقي لوجهة سياحية متكاملة تعمل على مدار العام، تضم أكثر من 25 ألف مقيم دائم من أكثر من 50 جنسية، وتقدم مزيجًا متنوعًا من الفعاليات الثقافية والرياضية والسياحية، إلى جانب بيئة داعمة للابتكار وريادة الأعمال وتكنولوجيا السياحة. وأكد أن هذا النموذج يسهم في خلق فرص عمل مستقرة، ويعزز النمو الاقتصادي الشامل عبر قطاعات متعددة تشمل الضيافة والتجزئة والثقافة والعقارات والتعليم والرعاية الصحية.
وأشار التقرير إلى أن أحد أبرز التحديات الهيكلية يتمثل في تجزؤ المنظومة المؤسسية، حيث لا يزال النشاط السياحي متركزًا جغرافيًا، مع ضعف استغلال مناطق واسعة من صعيد مصر والصحراء الغربية والوجهات التراثية والبيئية الثانوية. كما تتوزع مسؤوليات الحوكمة بين جهات متعددة، ما يؤدي إلى تكرار الإجراءات وتجزؤ منظومة التراخيص وضعف التنسيق بين سياسات السياحة والتحول الرقمي وجذب الاستثمارات.
وبحسب التقرير، تتراوح مدد استخراج التراخيص السياحية في مصر بين 6 و12 شهرًا، وتشمل ما بين 10 و16 جهة حكومية، مع نسب رقمنة لا تتجاوز 10–30%. وفي المقابل، تستغرق الإجراءات في أسواق مقارنة رائدة مثل دولة الإمارات ما بين شهر وشهرين فقط، مع نسب رقمنة تصل إلى 85–95%، وهو ما يخلق فجوة تنافسية واضحة أمام المشروعات السياحية الصغيرة والمتوسطة.
وأكد التقرير أن فجوة دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة تمثل أحد أهم معوقات النمو، خاصة في المحافظات ذات الطابع السياحي غير التقليدي مثل الفيوم والمنيا وقنا، حيث ترتفع مؤشرات عدم الرسمية نتيجة تعقيد إجراءات التسجيل وارتفاع تكاليف التراخيص.
كما أبرز التقرير أن تكنولوجيا السياحة والتحول الرقمي يمثلان من أكثر محركات النمو غير المستغلة في القطاع، رغم إطلاق مبادرات مثل التأشيرة الإلكترونية، والتذاكر الإلكترونية للمواقع الأثرية، وأنظمة الدفع الفوري، إلا أنها لا تزال تعمل بشكل مجزأ وغير مترابط ضمن بنية وطنية موحدة.
وأظهرت المقارنات الدولية أن مصر لم تطبق بعد عددًا من مؤشرات السياحة الذكية الأساسية، على عكس دول مثل المغرب وإندونيسيا وكينيا والهند، التي نجحت في رفع متوسط الإنفاق السياحي وتحقيق توزيع جغرافي أكثر توازنًا للعوائد.
ولمعالجة هذه الفجوات، قدم التقرير حزمة إصلاحات متكاملة تشمل تطوير البنية التحتية الرقمية، وتوحيد الحوكمة، وتمكين المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتنمية رأس المال البشري. وأشار إلى أن توسيع خدمات الجيل الخامس يمكن أن يضيف ما بين 1.3% و2.0% إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل زيادة بنسبة 10% في معدلات الانتشار، بينما يمكن لبرامج رقمنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة أن ترفع إيراداتها بنسبة تتراوح بين 20 و26%، وأن تقلل أنظمة إدارة الوجهات الذكية خسائر الازدحام في المواقع التراثية بنسبة 15–20%.
ووفقًا لسيناريوهات التقرير، فإن تنفيذ إصلاح شامل قد يرفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي من 8.5% حاليًا إلى 15% بحلول عام 2030، بما يضيف ما بين 1.8 و2.1 تريليون جنيه من القيمة المضافة، ويرفع عوائد النقد الأجنبي إلى 25–30 مليار دولار سنويًا، مع زيادة التوظيف المباشر إلى ما بين 3.5 و3.7 مليون وظيفة، واقتراب التوظيف غير المباشر من 6 ملايين وظيفة.
ويخلص التقرير إلى أن تنسيق الجهود بين الجهات المعنية وتبني إصلاحات متكاملة يمكن أن يحول قطاع السياحة في مصر من نموذج تعافٍ قائم على الحجم إلى محرك نمو عالي القيمة قائم على الابتكار والنمو الشامل والقدرة على الصمود، في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد السياحي العالمي.










