أصبحت الحروب والصراعات الدائرة على الساحة الدولية لا تتوقف عند استخدام الأسلحة ولكن امتدت لتشمل أدوات ومساعدة تسعى الدول المتناحرة للاستعانة بها أو استقطابها كما يحدث الآن، إذ تعمل الدول الكبرى ومنها روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لكسب تعاطف بعض الأطراف الأخرى في حالة التناحر الواقعة الآن.

وفي حرب إسرائيل على قطاع غزة المحاصر، لا تنفصل معركة تل أبيب عن واشنطن لإخضاع الفلسطينيين في حرب للتطهير العرقي وتصفية القضية الفلسطينية وإقامة تحالفٍ يضمن أن يبقى الشرق الأوسط منطقة نفوذ غربية.

تحكم الدول الكبرى في النظام الدولي

تحكم الدول الكبرى في النظام الدولي

وفي مطلع عام جديد، ومع حدوث أزمة دولية، تثار تساؤلات حول التغيرات التى جرت فى النظام الدولى. 

ويرجع ذلك إلى حقيقة الدور الذى تقوم به القوى العظمى والكبرى فى الحقائق الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية فى العالم المعاصر.

ومنذ أن ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح الدوليّ في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية كأقوى دولة في العالم كانت الاستراتيجيّة العظمى لها هي تحقيق واستمرار هيمنتها العالميّة، والإبقاء على ميزان القوى بينها وبين أيّ منافس عالمي أو إقليميّ لصالحها بشكل كبير.

وجاء هجوم السابع من أكتوبر لينسف صورة الجيش الإسرائيلي الذي كان يدّعي بأنّه لا يقهر، والذي أذلّ أجهزة مخابراته التي كانت تتظاهر بأنّها تهيمن على النظام الأمني الإقليمي، لذلك جاء الدعم الأمريكي السريع واللامحدود للكيان الصهيوني كونه حليفه الأول، وتحاول أمريكا من خلال سياسة متهورة استعادة الصورة المنهارة للكيان الإسرائيلي المتأزم، الذي كانت ستعتمد عليه في الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها الاستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكري المباشر.

لذلك تَعتبر الولايات المتحدة أنّ هزيمة وسحق المقاومة في غزة هي المقدّمة اللازمة لاستعادة هذا التحالف الذي أرادت إنشاءَه في المنطقة. وكنتيجة لدعمها الكامل للقصف الإسرائيليّ الوحشي والإبادة الجماعية والتدمير الذي تمارسه ضدّ أهل ومدينة غزة، فلقد تخلّت أمريكا عن كل الشعارات التي رفعتها والمبادئ التي كانت تنادي بها حول العالم، وبذلك تكون قد غامرت بسمعتها ومركزها بأن كشفت عن وجهها الحقيقي أمام شعبها وشعوب العالم، وأظهرت دورها كشريك في كل جرائم الحرب الإسرائيلية.

إنّ هذه السياسة المنحازة والمتهورة التي اتخذتها الولايات المتحدة في سعيها للحفاظ على مصالحها، ولاستعادة قوة الردع العسكري للجيش الإسرائيلي الذي أُهين علنًا أمام شعبه والدول الإقليمية، ومن أجل تأكيدها على هيمنة الكيان الصهيوني على دول المنطقة ستكون لها نتائج كارثيّة، ليس فقط على هيبتها وصورتها المنهارة أمام شعوب المنطقة، وإنما أيضًا على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. بل ستكون لها نتائج وخيمة على مستقبل الكيان الصهيونيّ نفسه الذي تحاول إنقاذه وحمايته.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه السياسة ستعيق قدرتها على التوجّه نحو شرق آسيا لمواجهة التحدي الصيني. ختامًا؛ سيكون لهذه السياسة المتخبطة تأثيرٌ مباشرٌ على النظام الأمني الإقليمي، ومستقبل الأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا بعد أن انكشفت هذه الأنظمة أمام شعوبها وثَبَت ضعفُها وعجزها بل تواطُؤ بعضها في أكبر جرائم حرب عرفها التّاريخ.

وتستثمر في هذه الحرب الإقليمية أطراف كثيرة بصيغ مختلفة، فالحروب لا تندلع إلا بتوافق وتواطؤ أغلب أطرافها، وتعريف المكسب والخسارة فيها تحدده أهداف كل طرف من الحرب، وليس نتائجها العسكرية وحدها أو التورط العسكري من الأصل، وهنا تظل الولايات المتحدة اللاعب الأهم والأكبر.

وأعلنت الولايات المتحدة مع اللحظات الأولى لمواجهات 7 أكتوبر أن حرب إسرائيل الجديدة حربها، وفي غضون أيام قليلة اتضَّح أنَّ القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي محكوم في كل تفاصيله برأيٍ أو فيتو أمريكيٍّ ما. عادت الولايات المتحدة إلى المنطقة لكن هذه المرة؛ من أجل احتلال وإدارة ولايتها الشرق أوسطية المسماة إسرائيل، بعد أن غرق هذا الكيان في الانحراف والفشل والبله اليمينيِّ.

لكنَّ استثنائية العلاقة الأمريكية الإسرائيلية لا تفسر وحدها المشهد الحالي بتطوراته المتلاحقة، وهو مشهد لا يمكن النظر إليه بمعزل عن مجمل وضع دولي تشكلت ملامحه في السنتين الماضيتين، وهو محكوم في تفاعلاته بعنصرين:

  • العنصر الأول:  استمرار نواتج أزمة مالية كبرى ضربت العالم عام 2008. هذه الأزمة بنيوية، ربما تم احتواؤها مؤقتًا لعدة أعوام، لكنها لم تتوقف وأسبابها لم تُعالج. وظلت المراكز الرأسمالية الكبرى في خلاف على طريقة إدارتها، لا أقول تجاوزها حاشا لله، هذا الخلاف وصل إلى مستويات من التخبط، واتخذ أشكالًا شديدة التوتر بين المراكز السياسة في الولايات المتحدة نفسها، ثم جاء وباء الكوفيد ليعلن استئناف الأزمة من جديد، ولكن بعنف هذه المرة.
  • العنصر الثاني: هو أنَّ خيارات التعامل مع هذه الأزمة قديمة وغبية، إشعال أزمات سياسية يفرض فيها السلاح كلمته فيسترد المكوِّن العسكري للإمبراطورية الرأسمالية عافيته، وأعني هنا الجيش الأمريكي تحديدًا، بالشكل الذي يساعد مُركَّبات الرأسمالية الأمريكية، التي تشكل وحدها ربع اقتصاد العالم، على فرض شروطها الاقتصادية على شركائها قبل أعدائها.

ومن المؤكد أن الحرب الأوكرانية أدت إلى تراجع الدور الروسى فى السياسة العالمية، لكن لايزال مبكرًا توقع أن العالم بات ثنائى القطبية، لأنه بالرغم من التراجع الروسى هناك ما يشير إلى أن الحرب الأوكرانية ربما تأخذ مسارًا مختلفًا فى العام المقبل، وذلك استنادًا إلى فشل الهجوم المضاد الأوكرانى الذى بدأ فى مطلع صيف 2023 فى تغيير الأوضاع الاستراتيجية على ساحة الحرب التى ظلت فيها روسيا مسيطرة على حوالى 20% من الأرض، والتى تشمل المناطق الناطقة باللغة الروسية.

ويُضاف إلى ذلك، الضغوط الاقتصادية على الدول الأوروبية، مع صعود اليمين الأوروبى وكذلك الأمريكى، غير الأصوات السياسية العالية فى اتجاه البحث عن مسار لتسوية هذه الحرب، والذى على الأرجح سوف يسير فى اتجاه التسليم بالأمر الواقع، إن لم يكن باتفاق سلام، فسوف يكون مشابهًا لما كان عليه الحال عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014. علاوة على أن الحرب التى شنتها إسرائيل على قطاع غزة فى أكتوبر 2023، سجلت عودة الولايات المتحدة مرة أخرى لكى تركز على إقليم لم تتركه إلا لفترة وجيزة.

ووسط حرب غزة، انعقدت قمة صينية- أمريكية على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط الهادى (آبيك) فى منتصف نوفمبر 2023، وذلك بعد لقاء مماثل جرى فى إطار اجتماع قمة العشرين فى مدينة بالى الإندونيسية قبل عام. وما يهم هنا أن القمة الصينية- الأمريكية جاءت بعد سلسلة من اللقاءات المثيرة التى غطت تقريبًا على الموضوعات الاستراتيجية كافة بين واشنطن وبكين من قضية تايوان إلى قضايا المخدرات. وتلك اللقاءات تسارعت معها تصريحات أمريكية إيجابية تجاه الصين منذ أكتوبر الماضى، وشملت جاك سوليفان، مستشار الأمن القومى، وأنتونى بلينكن، وزير الخارجية، حتى وصلت إلى لقاء الرئيسين جو بايدن وشى جين بينغ، فى نوفمبر الماضى.

وهذه الكثافة فى التفاعلات الأمريكية الصينية تدفع إلى التوقع خلال عام 2024 أن تكون العلاقات الثنائية بين القوتين تركز على ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما. فكلاهما أولًا يريد نظامًا اقتصاديًا عالميًا مستقرًا يجعلهما أكثر استفادة من حقيقة الاعتماد المتبادل الاقتصادى الكثيف بين البلدين.

ومن جانبه، قال خبير السياسات الدولية، الدكتور أشرف سنجر، إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كقوة عسكرية واقتصادية ما زالت مهيمنة على شكل النظام الدولي.

وأضاف سنجر في تصريحات لـ “صدى البلد”، أن الصين أصبحت منافسًا للولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول أن تفرض سيطرتها في قارة آسيا متمثلة في تايوان، مشيرًا إلى أن الصين الآن تتحدى الهيمنة الأمريكية، مشيرًا إلى أن التفاهمات الأمريكية الصينية تسعى للوصول إلى استقرار العلاقة بين الدولتين.

وتابع قائلًا أن التحالفات السياسية الجديدة التي أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا والهند والعديد من الدول جعلت الموقف الأمريكي أقوى في مواجهة الصين.

ومن جانب آخر، قال البروفيسور جون ميرشايمر، في جامعة شيكاغو، إن الولايات المتحدة محكوم عليها بالانهيار لسببين: الأول هو صعود الصين وإحياء القوة الروسية، حيث انتقلنا من عالم أحادي القطب، حيث كانت الولايات المتحدة تسيطر على الكوكب، إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث لم يعد بإمكان الولايات المتحدة السيطرة عليه، لأنه يتعين التعامل مع قوتين عظميين آخرين. والسبب الثاني هو أن الولايات المتحدة “تتصرف على نحو يؤدي إلى تنفير البلدان في مختلف أنحاء العالم”.

ويتابع: “فإذا كنت ستنشئ نظاما قائما على القواعد وتتوقع أن تلتزم الدول الأخرى بهذه القواعد التي كتبتها أساسا، فيجب عليك الالتزام بها أيضا. وعليك أن تتصرف بطريقة ترضي الدول الأخرى في العالم إلى حد ما. لكن دكتاتوريتنا السياسية الأساسية هي: إما خيارنا أو لا شيء. لذلك، عندما نجمع هذا مع التحول في التوزيع العالمي للقوة، فإن النظام الدولي الليبرالي الذي بنيناه في اللحظة الأحادية القطبية يصبح فاشلا”.

ظهور النظام الدولي الجديد؛ المؤشرات والخصائص - Mehr News Agency
تحكم الدول الكبرى في النظام الدولي

مراحل هيمنة الولايات المتحدة على العالم

والشائع فى علوم العلاقات الدولية أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها وتفاعلاتها، وما بعد ذلك هو أقل شأنًا من المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو الحرب أو الردع مع القوى الأخرى، والشائع أيضًا أن تُوصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيُقال نظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو نظام القطبين، كما كان فى أعقاب الحرب الثانية، حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق بالنظام الدولى.

أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 حتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وهو العصر الذى سُمِّى العولمة شكلًا، أما فى الحقيقة فقد كانت الولايات المتحدة هى القائدة العظمى الوحيدة فى العالم.

ومع صعود الاتحاد السوفيتي في نهاية الأربعينيات والعقود الأربعة التي تلت ذلك كمنافس شرس وعنيد لأمريكا في أوروبا وحول العالم كانت الاستراتيجية الأمريكية هي إنشاء تحالفات عسكريّة وسياسية ومؤسّسات اقتصادية وثقافيّة ومجتمعيّة لاحتوائه ومحاربة الأيديولوجية التي يمثّلها وينشرها حول العالم، في ظلّ التنافس الاستراتيجيّ والأيديولوجيّ بينه وبين المعسكر الغربيّ بقيادتها، بما اصطَلح عليه المتخصّصون بالحرب الباردة.

وحقّقت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها في نصف الكرة الغربيّ مع أواخر القرن التّاسع عشر، فيما عرف بمبدأ مونرو (Monroe Doctrine) نسبة إلى الرئيس الأمريكي الخامس عام 1823، والذي نصّ على عدم السماح لأيّ وجود عسكري لأيّ قوى عالميّة في نصف الكرة الغربيّ، حتى تستفرد أمريكا بهيمنتها فيما اعتبرته منطقتها الخلفيّة.

ومع بدايات القرن العشرين، استطاعت أمريكا أن تصفّي كلّ القواعد العسكرية في نصف الكرة الغربيّ، كما أنهت الوجود المسلّح للقوى الأوروبية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، فلقد فرضت أمريكا حظرًا على دول المنطقة بعدم المشاركة في أيّ تحالفات عسكرية مع أي قوى عالميّة. وهنا يمكن فهم تصرُّف أمريكا بعد اكتشافها الصواريخ السوفيتية النووية على الأراضي الكوبية في أكتوبر 1962، حيث هدّدت وقتها بحرب شاملة غير محدودة، لولا الاتّفاق على سحب هذه الصواريخ نظيرَ سحب الصواريخ الأمريكية النووية من تركيا.

أمّا على المستوى الاستراتيجي فمنذ أواسط القرن العشرين، تعتبر الولايات المتحدة أنّ هناك ثلاثَ مناطق حيوية حول العالم تقتضي مصالحها الكبرى أن تكون متواجدة فيها بقوّة، وأن تحوز اهتمامَها السياسيَّ ووجودها العسكريَّ لتبقي على مكانتها ليس فقط كدولة عظمى، ولكن أيضًا كأهمّ قوة عالميّة تتحكم بمفاصل ومؤسسات النظام الدولي الذي تشرف عليه وتقوده.

ويتعلق الاهتمام بمنطقتَي أوروبا وشرق آسيا بوجود قوى عظمى أخرى تنافس الولايات المتحدة، حيث لا تريد أميركا لهذه القوى: (روسيا في أوروبا، والصين في شرق آسيا)، أن تكون مهيمنة في إقليمها حتى لا تنافسها في أماكن أخرى حول العالم.

وأمّا منطقة الخليج فإنها تعدّ منطقة استراتيجية وحيوية جدًا؛ نظرًا لأنّها منطقة تكدّس الثروة النفطية في العالم، والتي تعدّ السلعة الأهمّ في الاقتصاد العالمي، حيث إنّ الذي يسيطر عليها يستطيع أن يتحكّم في أهم مفاصل هذا الاقتصاد.

وما بين فترة سقوط وتفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991 ولمدّة حوالي ربع قرن، كان العالم أحادي القطبيَّة، حيث تفرّدت الولايات المتحدة بقيادة العالم، ففرضت هيمنتها من حيث أصبحت تحدّد اتجاهاته وتقرّر قواعده وتقود سياساته وتصنع مؤسّساته.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version