دائما ما يرتبط ظهور زعيم لديه طموح سياسي، بالدخول في حروب مع خصومه، وهو الواقع الذي تعيشه روسيا منذ قدوم الرئيس فلاديمير بوتين على رأس السلطة بموسكو، والمتابع لتفاصيل المجتمع الروسي، يجد أن هناك حرصا على تهيئة المجتمع بكل تفاصيله على أوضاع الحرب، فيما يعرف بعسكرة المجتمع، وبالطبع يأتي على رأس تلك التحركات تهيئة الشباب في سن صغيرة على الحياة العسكرية، كونه المغذي الأساسي للجيش الروسي الذي سيخوض معاركه، وهو ما يحدث الآن داخل الحرب الأوكرانية. 

ورغم بدء بوتين لتلك السياسة منذ فترة كبيرة، إلا أنه مستمر في هذا النهج حتى الآن، بل ويوظف الحرب الأوكرانية في تلك التهيئة، عبر استخدام جنود سابقين شاركوا في معارك أوكرانيا في تدريب وتهيئة الشباب الصغير على الحياة العسكرية، بل وكذلك استخدام الأسلحة بكافة أنواعها بما في ذلك الأسلحة الثقيلة،ومن ضمنها الدبابات، إضافة إلى ذلك الاستفادة من شغف الشباب الصغير بالتكنولوجيا، وتوظيف ذلك في تدريبهم على استخدام الطائرات بدون طيار. 

الألعاب بنكهة عسكرية وأجواء أوكرانية 

ووفقا لما تنشرته صحيفة themoscowtimes الروسية، نظمت السلطات الروسية في مدينة زارنيتسا في سلسلة الألعاب “العسكرية الوطنية”، بمشاركة شباب روس تتراوح أعمارهم بين 15 و 16 عامًا خلال هذا الأسبوع، ويأتي هذا الحدث وسط عسكرة أوسع للمجتمع الروسي شوهدت في السنوات الأخيرة، لا سيما منذ غزو أوكرانيا.

وتهدف ألعاب زارنيتسا، والتي أقيمت في متحف ومحمية بورودينو الميداني خارج موسكو، إلى تعليم المهارات العسكرية للشباب بما في ذلك تشغيل الطائرات بدون طيار والحرب الإلكترونية والاستطلاع، ووفقًا لمنظمي الحدث ، فإن الجنود الذين شاركوا في غزو أوكرانيا – الذي أطلق عليه الكرملين “عملية عسكرية خاصة”، علموا المشاركين “الأساليب الهجومية”.

 

أطفال يقودون دبابات ومراهقون يطلقون النار

وأصبحت “العسكرية الوطنية”، مواد تعليمية إجبارية داخل المجتمع الروسي، وخلالها وعلى مدار أيام يتنافس الطلاب من جميع أنحاء روسيا في أنشطة مثل قراءة الخرائط وإطلاق النار ومسابقات التاريخ، وقد مُوِّلَت المسابقة جزئياً من قِبَلِ الكرملين، الذي جعل التعليم “الوطني العسكري” أولوية، حيث تركز عملية عسكرة المجتمع الروسي على تأجيج العداء للغرب داخل المجتمع وتتعامل مع أوكرانيا باعتبارها ألعوبة في يد الغرب.

وبعد انتهاء المسابقات يصعد المراهقون إلى منصة التتويج مرتدين أحذيةً ثقيلة وزيّاً عسكرياً في حفل أخاص ويتسلّمون جوائز في تخصّصٍ متزايد الأهمية في روسيا، وهنا قال سفياتوسلاف أوميلتشينكو، وهو من قدامى المحاربين في القوات الخاصة في الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي)، الذي أسَّسَ مجموعة Vympel، التي تدير الفعالية: “نحن نبذل كل ما في وسعنا للتأكُّد من أن الأطفال على درايةٍ بذلك، ولجعلهم مستعدين للذهاب والخدمة بالجيش”. 

 

مخطط داخل المجتمع الروسي منذ 10 سنوات 

على مدى السنوات العشر الماضية، روَّجت الحكومة الروسية لفكرة أن الوطن الأم محاطٌ بالأعداء، ونشرت ذلك المفهوم من خلال المؤسسات الوطنية مثل المدارس والجيش ووسائل الإعلام والكنيسة الأرثوذكسية، بل إن ذلك أثار احتمال أن تضطر البلاد مرة أخرى للدفاع عن نفسها كما فعلت ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.

وازداد أهمية تلك الإجراءات مع بداية حشد القوات الروسية لغزو أوكرانيا، ليحصد بوتين نتاج مخططه بعسكرة المجتمع الروسي، والتي جرى تنفيذها باطراد في عهده، ويبدو أنها دفعت الكثيرين إلى فكرة أن القتال يمكن أن يكون وشيكاً حقاً، وهو ما حدث بالفعل، ولكن تلك العقيدة القتالية مبنية على فكرة أن روسيا لا تريد إراقة الدماء، ولكنها مضطرة للدفاع عن نفسها في ظل أن الأعداء يحاوطون الوطن، وهو ما ظهر في خطاب بوتين قبل غزو أوكرانيا عندما أصر على أن روسيا لا تريد إراقة الدماء، لكنها مستعدةٌ للردِّ بـ”إجراءاتٍ عسكرية – تقنية” على ما وصفه بالسلوك العدواني للغرب في المنطقة. 

عسكرة المجتمع الروسي تبدأ من التعليم والتاريخ

ويهدف البرنامج الذي تبلغ قيمته 185 مليون دولار أمريكي ومدته أربع سنوات، إلى زيادة “التعليم الوطني” للروس بشكلٍ كبير، بما في ذلك خطة لجذب ما لا يقل عن 600 ألف طفل لا تتجاوز أعمارهم الثماني سنوات للانضمام إلى صفوف جيش الشباب، ثم تكون هناك مراحل لمن أهم أكبر سنا، ولذلك يسعى الجيش الروسي لرفع سن التجنيد ليبدأ من 21 عاما، بدلا من 18، ليكون الشباب وقت الخدمة أكثر نضوجا وتحملا، وفي ذات الوقت، أخذ إعداد لمدة أكبر عبر البرامج الوطنية، وهو مشروع قانون يدرس داخل البرلمان الروسي.

أما الكبار فتُروَّج لهم هذه الفكرة عبر التلفزيون الحكومي، حيث العروض السياسية -أحدها يعمل عنوان “موسكو والكرملين وبوتين”- التي تدفع بسردية أن هناك جماعةً فاشية في أوكرانيا، وأن الغرب عازمٌ على تدمير روسيا، وجميع هؤلاء متَّحِدون بالذاكرة شبه المُقدَّسة للنصر السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، تلك السنوات التي تستخدمها الدولة لتشكيل هوية روسيا المنتصرة، التي يجب أن تكون مستعدةً لحمل السلاح مرةً أخرى.

عسكرة وعى الروس

وهذا هو الاتِجاه الذي يسميه أليكسي ليفينسون، وهو رئيس قسم الأبحاث الاجتماعية والثقافية في مركز ليفادا، وخبير استطلاع مستقل في موسكو، بـ”عسكرة وعي الروس”، ففي استطلاعات الرأي الدورية للمركز أصبح الجيش في عام 2018 المؤسسة الأكثر موثوقيةً في البلاد، متجاوزاً الرئيس نفسه حتى، وهذا العام بلغت نسبة الروس الذين يقولون إنهم يخشون اندلاع حرب عالمية أعلى مستوى مُسجَّل في استطلاعات تعود إلى عام 1994 (62%). 

لذلك فإن الكثيرين قد تكيَّفوا مع قبول أن روسيا تخوض منافسةً وجوديةً مع قوى أخرى، يكون فيها استخدام القوة أمراً ممكناً، وكان ذلك تمهيدا لمخططات غزو أوكرانيا، وتوسيع رقعة البلاد، وضم أراضي من الاتحاد السوفيتي القديم إلى الأراضي الروسية .

 

الحرب العالمية الثانية لا تزال مستمرة

ولعب الاحتفال بانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية -التي يُشار إليها باسم الحرب الوطنية العظمى في روسيا- الدور الأهم في هذا التكييف، فبدلاً من الترويج لثقافة إحياء ذكرى البطولة السوفييتية ومقتل 27 مليون شخص، يطبِّق الكرملين سردية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، ويضع روسيا مرةً أخرى في موضع تهديدٍ من قِبَلِ أعداءٍ عازمين على تدميرها. 

وفي خطابه السنوي في يوم النصر منذ عامين، وبعد عرض عسكري ضخم، هاجَمَ بوتين أعداء روسيا، والذين لم يكشف عن أسمائهم، والذين يعيدون الترويج لـ”النظرية الوهمية للنازيين”، وعلى التلفزيون الحكومي يسخر مقدم برنامج إخباري من التهديدات بالعقوبات ضد روسيا من قبل أولئك “الذين ليس لديهم أي فكرة عن كيفية تخويف شعب فَقَدَ أكثر من 20 مليوناً من رجاله ونسائه وعجائزه وأطفاله في الحرب الأخيرة”، ولذلك نجد أن وصف “النازيون الجدد”، دائما ما يلتصق بالنظام الأوكراني عند الحديث الرسمي والشعبي الروسي. 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version