في مركز مراقبة بعثة الفضاء ينكبّ ثلّة من المهندسين على شاشات رقمية يغلبها اللون الأزرق الفاقع، يتابعون ويسجلون الملاحظات بنهمٍ وحذر، بينما كان مكوك الفضاء خارج الغلاف الجوي يقترب ويدنو من محطة الفضاء الروسية “مير”، وهي الرحلة الأولى من نوعها ضمن اتفاقية مشتركة بين محوري القوّة، أمريكا وروسيا، وذلك بعد انتهاء الحرب الباردة على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
لحظاتٌ تحبس الأنفاس في مشهد غير مألوف، إذ تلتحم المركبة الأمريكية أخيرا بالمحطة الروسية فيلتقي الطاقمان ويتبادلان التحيات والتراحيب، ولم يكن ذلك إلا سعيا من واشنطن في الاستزادة من الخبرة الروسية بما يخص المكوث في الفضاء، لأن موسكو في أثناء سباق الفضاء وضعت استعمار الفضاء الخارجي على المدار القريب نصب عينيها، بعد خسارتها سباق إرساء أوّل بشري على سطح القمر لصالح الأمريكيين.
لقد كان الروس وشعوب دول الاتحاد السوفياتي السابق على وعي كافٍ بأنّ التناطح والصراع مع أمريكا في هذا المضمار سيوجب عليهم دفع الغالي والثمين، لذا أظهروا جلادة كبيرة في مشروعهم طويل الأمد، ليتكيّفوا مع أصعب البيئات على الإطلاق، بيئة الفضاء الخارجي، حيث ينعدم حزام الأمان أمام وهج الإشعاعات الكونية الفتاكة، وتقلّ الجاذبية، وتنقطع كافة سبل الحياة، وتبقى وسائل التواصل محدودة للغاية مع الأرض.
ويعد رائد الفضاء الروسي “فاليري بولياكوف” محطم الرقم القياسي لأكثر عدد أيام مكوث في الفضاء بشكل متواصل، إذ بلغ 437 يوما في تسعينيات القرن الماضي، وكان ذلك بالنسبة له مدعاة للفخر، فقد قال فور عودته: بإمكاننا التحليق الآن نحو المريخ.1
ربما لم يكن “بولياكوف” مدركا لأبعاد ما كان يحلم به، فعلى الرغم من إنجازه الكبير، يبقى الأمر خطرا للغاية على مستوى الجسم البشري الطبيعي، فثمة أعراض مدمّرة على الصعيد البدني والنفسي وكذلك العقلي حال الهروب من جاذبية الأرض، فضلا عن تضاعف تلك الأعراض في فترات المكوث الطويل في الفضاء الخارجي.
فما هي التأثيرات السلبية والأخطار التي يواجهها روّاد الفضاء في أثناء أداء رحلاتهم الفضائية على المدى القريب والبعيد؟
جدار الحماية.. درع خفي يصد الأشعة عن الكوكب
من حسن الحظ أنّ الأرض تحتوي على جدارين عظيمين يحميانها من أغلب الأشعة الضارة القادمة من الفضاء السحيق ومن الرياح الشمسية على وجه الخصوص، أما خط الدفاع الأول فهو الغلاف المغناطيسي الذي يشكل درعا خفيا، وهو ينطلق من قطبي الأرض من الشمال والجنوب، ثم يتحد مشكلا فقاعة حلقية غير مرئية على شكل كعكة الدونات، لتمنع الجسيمات المشحونة الفتاكة من الوصول إلى الأرض. وأما خط الدفاع الآخر فهو طبقة الأوزون التي تحمي الأرض مما بقي من الأشعة فوق البنفسجية الخطيرة.
وثمة عدة مراكب فضائية مدارية تدرس غلاف الأرض المغناطيسي عن كثب مثل القمر الصناعي “جيوتايل” (Geotail)، كما توجد عدة أدلة يمكن الاستشهاد بها من سطح الأرض كظهور خيوط الشفق القطبي بالقرب من القطبين، فتلك المناطق هي أقطاب الغلاف المغناطيسي التي تسمح بنفاذ بعض الجسيمات المشحونة، لتتفاعل مع جزيئات الهواء عند أعالي طبقات الغلاف الجوي، فينتج عنها مزيج خلاب من الألوان الساحرة.
وبطبيعة الحال فإنّ سُمك الغلاف المغناطيسي للأرض غير ثابت، بسبب ضغط الرياح الشمسية المستمر بين الحين والآخر عليه، وهي ناتجة عن التفاعلات الشمسية الدورية، لكن قد يمتد الغلاف المغناطيسي إلى 600 ألف كيلومتر من الجهة المعاكسة للأرض في منطقة يُطلق عليها الذيل المغناطيسي (Magnetotail). وهذا الرقم لا يضاهي شيئا بمفهوم المسافات الشاسعة في الفضاء.2
وبسبب الغلاف المغناطيسي كذلك تتجمّع حول الأرض -على مسافات أبعد بقليل- الجسيمات المشحونة التي علقت بجاذبية الأرض ولم تستطع الخلاص، فيتكوّن نطاق من الجسيمات المشحونة النشطة المعروفة بحزام “فان ألين” الإشعاعي، ويُعد أكثر الأماكن فتكا على المدى القريب.
ولأن محطة الفضاء الدولية تقع في مدار قريب من الأرض عند ارتفاع 400 كم فقط، فإنّ تلك المسافة تُعد داخل نطاق الحماية من الأشعة الخطيرة، لكن رائد الفضاء قد يتعرّض لعشرة أضعاف من الأشعة المضرّة في هذه البقعة عند المقارنة مع سكان الأرض، وهذه نسبة ضئيلة جدا بالنظر إلى ما تختزنه المسافات الأبعد من ذلك.
وبالنسبة لرحلات المستقبل كالذهاب إلى المريخ والقمر، فإنّ أبحاثا ما زالت تُجرى اليوم لدراسة شكل وسماكة الدروع التي ينبغي تنصيبها على المركبة الفضائية، لمنع رواد الفضاء من التعرض للأشعة الضارة التي تفتك بالحمض النووي للكائنات الحيّة، فتصيبه بأنواع السرطانات المتعددة، بالإضافة إلى أعطاب ستحدث على مستوى العقل، وقصور في اتخاذ القرارات، وخلل إدراكي مستمر (persistent cognitive dysfunction)، وفق دراسة مفصلة تطرحها جامعة كاليفورنيا.3
انعدام الجاذبية.. بيئة تتآكل فيها العظام وتضمر العضلات
قد تبدو المشاهد الترفيهية التي يقوم بها رواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية مسلية للغاية كما تظهرها فيديوهات اليوتيوب، ومن أكثر المقاطع شهرة مقطع رائد الفضاء الأمريكي “كريس هادفيلد” وهو يقذف بكرة مائية في الهواء، فتبقى متكوّرة على نفسها تعوم في طريقها حتى ترتطم بسطحٍ ما، أو ربّما مشاهدة رواد الفضاء يتنقلون بانسيابية وسلاسة من مكان إلى آخر بين الوحدات، فتلك المقاطع تظهر نمطا حياة مرفها يعيشونه ساكنو محطة الفضاء الدولية، وهي في الحقيقة عكس ذلك تماما.
فغياب تأثير الجاذبية على النحو المعهود يؤدي إلى تآكل العظام وتقلّص العضلات، مما يتسبب بمشاكل فسيولوجية وعضوية غير محمودة، لذا يستدعي الأمر ممارسة رواد الفضاء التمارين الرياضية على الأقل لمدة ساعتين يوميا لحماية أجسادهم من الهزال العضلي، ولكن على المدى البعيد فإنّ فقدان كثافة العظام أمر واقع لا مفر منه.4
وقد يؤثر غياب الجاذبية عن الجسم بنواحٍ أخرى لا يمكن تنبؤها مسبقا، بسبب حداثة عهد الإنسان في هذه البيئة، فعلى سبيل المثال حينما عاد رائد الفضاء “سكوت كيلي” صاحب ثاني أعلى مكوث لرائد فضاء أمريكي خارج كوكب الأرض بشكل متواصل، وجد الأطباء بأنه يعاني من ضبابية في الرؤية.
ويشير العالم الأمريكي “براندن ماسياس” مدير مختبر القلب والأوعية الدموية والرؤية في مركز “ناسا جونسون للفضاء”، إلى أن ثمة عددا قليلا من رواد الفضاء الذين قاموا برحلات طويلة مدتها تفوق العام في الفضاء الخارجي، ويجري عليهم العلماء دراسات تشير نتائجها الأولية إلى أنّ مدة المهمة تساهم بشكل مباشر في تفاقم التغيرات الهيكلية للعين، مثل تورم أنسجة رأس العصب البصري.
ويقول “ماسياس” معللا: من الوارد أن تحدث “وذمة القرص البصري” (Optic Disc Edema) عندما تتراكم الألياف العصبية التي تدخل في تركيب الجزء الخلفي من العين، أو عندما يتراكم السائل النخاعي حول الألياف العصبية.5
وهناك دراسة أخرى أجراها باحثون في كلية الطب في جامعة “كاليفورنيا سان دييغو” تفضي إلى أنّ عضلات العمود الفقري لرواد الفضاء تتقلّص بشكل كبير في مدة وجيزة بنسبة قد تصل إلى 19%. لذا فإن أكثر من نصف رواد الفضاء في المحطة الدولية سجّلوا أعراضا لآلام في منطقة الظهر فور عودتهم إلى الأرض، كما أنّ رواد الفضاء أكثر عرضة بـ4 مرات من ذويهم المقيمين على الأرض للإصابة بفتق في الديسك على مستوى الظهر والرقبة.6
فطريات محطة الفضاء.. خطر يهدد الرواد في عالم مغلق
على المستوى المَرَضي وتفشي الأمراض، فإنّ من البروتوكولات المتبعة من طرف أغلب الوكالات منع أي اتصال مباشر بين الروّاد ومن حولهم قبل إرسال رائد الفضاء، لمنع انتقال عدوى أو فيروس بأي شكل من الأشكال.
لكن دراسة ظهرت في مجلة علم الأحياء الفلكي (Journal Astrobiology) أبريل/نيسان 2019 أشارت إلى اكتشاف فطريات توجد الآن على متن محطة الفضاء الدولية، ولا يعلم أحد كيف استطاعت هذه الفطريات الهروب من الأرض والتسلل إلى هذه النقطة.7
وعليه، فإننا ندرك الآن بأنّ ثمة فطريات تعيش في محطة الفضاء الدولية، ولكن ما من معلومات مؤكدة حتى الآن تصف مدى خطورتها على الإنسان، في حين تمكن عدد من الباحثين التعرف على هوية فصائل بعض الفطريات مثل فطر “أسبرغيلوس فلافوس” (Aspergillus Flavus) وفطر النوباء (Alternaria)، ويُعرف بأن هذه الأنواع تنتج مواد مسرطنة ومثبطة للمناعة.
وعلى المدى البعيد فإنّ أي تطور غير محمود قد يكلف رائد الفضاء حياته، بل ستنتقل العدوى إلى جميع المقيمين بسهولة بالغة بسبب المكان المغلق.
اكتئاب وعداء في الأماكن المغلقة.. أعراض العزلة
أما على الجانب النفسي والسلوكي، فثمة عدة إشكاليات لا يمكن تخطيها مهما حظي روّاد الفضاء بتدريبات وصميمية في إدارة السلوك، إذ تشير الدراسات إلى حالة عدائية قد تنشأ في الأماكن المغلقة بين مجموعة من البشر على فترات زمنية طويلة، ولا يمكن تفادي نشوء هذا التوتر بأي شكل. لذلك فإن رائد الفضاء يجري اختياره وفق معايير عالية للغاية بناء على طبيعته وغرائزه واستجابته للمؤثرات حوله، ثم يُدرب ضمن أفراد الطاقم أشهرا طويلة قبل إرسالهم جميعهم في رحلتهم، وذلك لضمان قدرتهم على العمل معا على فترات طويلة.
ونظرا للظروف المحيطة فإنّ محطة الفضاء الدولية أو أي مركبة فضائية أخرى، تصمم وفقا لأفضل استغلال للمساحات، لا سيما أنّ الأمر يتعلق عادة بكتلة المركبة نفسها وهو الذي يشكل العائق الأكبر في عملية إطلاق مراكب الفضاء. فتكون المساحات الداخلية في الغالب ضيقة مع توفر أماكن تحتوي على بعض الخصوصية لكلّ رائد.
وفي الرحلات طويلة الأمد كالذهاب إلى المريخ (يستغرق نحو 7 أشهر للوصول)، سيكون رواد الفضاء أكثر عزلة من أيّ وقت مضى، نظرا إلى العامل الإضافي وهو البعد عن كوكب الأرض؛ وسينتج عن ذلك اضطراب في النوم، وستتوقف عجلة الحياة اليومية، إضافة إلى أعباء العمل وحجم المهام والمسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق رواد الفضاء، وقد يفضي ذلك إلى الدخول في حالات اكتئاب يصعب تجاوزها.
ومن ضمن أخطار المكوث في الفضاء كذلك شح الموارد الغذائية التي تصل بشكل دوري إلى محطة الفضاء الدولية، ففي حال التخطيط لمهمة بعيدة عن الأرض، فإن ذلك قد يعني ذلك انقطاعا تاما للمصدر الوحيد للغذاء. كما أن المسافات الشاسعة بين الكوكب الأم والمركبة الفضائية قد يؤخر أي عملية إنقاذ في حالة حدوث أمر طارئ، وهو أمرٌ وارد حدوثه على الدوام.
إنّ مركبة الفضاء أشبه بالزنزانة المطلّة على منظرٍ خلاب، فالناظر قد يعتاد مشهد النجوم بعد حينٍ من الزمن مهما بلغ جماله، وسيبقى حبيس مكانه في عزلة لا يهنأ عيشه حتى يجد سبيلا للخروج.
المصادر
[1] هول، لوريتا (2015). ضبط الرقم القياسي: أربعة عشر شهرا على متن مير كانت مهمة حلم لبولياكوف. تم الاسترداد من: https://www.rocketstem.org/2015/02/09/russian-cosmonaut-valeri-polyakov-spent-record-breaking-14-months-aboard-mir-space-station-in-1990s/
[2] دوبريجيفيتش، ديزي (2022). شرح: الغلاف المغناطيسي للأرض. تم الاسترداد من: https://www.space.com/earths-magnetic-field-explained
[3] باريهار، ك. فيبان وآخرون (2016). ورقة بحثية: التعرض للإشعاع الكوني والخلل الإدراكي المستمر. تم الاسترداد من: https://www.nature.com/articles/srep34774#abstract
[4] ماي، ساندرا (2021). ممارسة التمارين في الفضاء. تم الاسترداد من: https://www.nasa.gov/audience/foreducators/stem-on-station/ditl_exercising.
[5] ستريكلاند، أشلي (2021). كيف تتغير عين الإنسان بعد عام واحد في الفضاء. تم الاسترداد من: https://edition.cnn.com/2021/04/29/health/astronaut-eye-changes-study-wellness-scn/index.html
[6] د. بوشمان، هيذر (2016). على صعيد رواد محطة الفضاء، تتقلص عضلات العمود الفقري بعد شهور في الفضاء. تم الاسترداد من: https://health.ucsd.edu/news/releases/pages/2016-10-25-spinal-muscles-of-space-station-astronauts-shrink-after-months-in-space.aspx
[7] مان، آدم (2019). ثمة فطريات سامة في الفضاء ولا يعلم أحد مدى خطورتها. تم الاسترداد من: https://www.livescience.com/65294-is-toxic-fungus-in-space-dangerous.html