تناولت صحيفتا “لوموند” الفرنسية و”لوتان” السويسرية شكوى “الإبادة الجماعية” التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، التي ستعقد جلسات الاستماع فيها غدا الخميس وبعد غد، فقدمت الأولى عناصر الشكوى بالشرح والتفصيل، في حين رأت الثانية أن ما قدمته جنوب أفريقيا قد يكون مدمرا لإسرائيل.
وافتتحت لوموند تقريرها بأن هذه الشكوى بالنسبة لإسرائيل وغالبية الإسرائيليين تعد انحرافا وأمرا محزنا، لأن إسرائيل قامت في أعقاب (ما يسمونها) المحرقة، وها هم يجدون أنفسهم متهمين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
في المقابل، يشكل هذا الإجراء للفلسطينيين اليائسين في غزة فرصة لتسليط الضوء على المحنة التي يعيشونها بعد استشهاد 23 ألف شخص وإصابة 59 ألفا خلال 3 أشهر من القصف المدمر.
ومع أن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن يقرر القضاة في لاهاي موضوع الدعوى، فإن جنوب أفريقيا تطالبهم باتخاذ “إجراءات احترازية” لوقف الجرائم الجارية في الأراضي الفلسطينية.
ولكن المحكمة لا تملك الوسائل لتنفيذ قراراتها الملزمة، وربما تستخدم الولايات المتحدة -التي تدعم إسرائيل في حربها- حق النقض إذا طلبت المحكمة فرض عقوبات من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
“لا أساس لها من الصحة”
من جهتها، أشارت “لوتان” إلى أن الخارجية الأميركية وصفت الشكوى المقدمة ضد إسرائيل بأنه “لا أساس لها من الصحة” واعتبرتها وإسرائيل ذات دوافع سياسية، علما بأن التدابير الأولية بالمحكمة يمكن أن تكون ذات أهمية رمزية كبيرة.
وستعقد جلسات الاستماع للشكوى -التي قدمتها جنوب أفريقيا يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2023 ضد إسرائيل، بشأن انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها- أمام محكمة العدل الدولية يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني بقصر السلام في لاهاي.
وفي الوثيقة التي أرسلتها، تحث جنوب أفريقيا المحكمة على أن تأمر إسرائيل “بالوقف الفوري لجميع الهجمات العسكرية التي يمكن أن تشكل أعمال إبادة جماعية، ووقف القتل والتسبب في أضرار نفسية وجسدية خطيرة للفلسطينيين في غزة، وعدم فرض ظروف معيشية يمكن أن تؤدي إلى التدمير الجسدي” لسكان غزة.
تجريد من الإنسانية
ويمكن تصنيف هذه الجرائم الثلاث قانونا على أنها إبادة جماعية إذا ارتكبت بقصد القضاء على الفلسطينيين في غزة -كما تقول الصحيفة- فمثل هذه النية، التي تعد عنصرا حاسما في توصيف جريمة الإبادة الجماعية، يتجلى بالنسبة لجنوب أفريقيا “على أعلى المستويات”.
وأوردت الوثيقة المؤلفة من 84 صفحة تصريحات “مجردة من الإنسانية” أدلي بها على أعلى المستويات من قبل رئيس الدولة ورئيس الحكومة والعديد من الوزراء وكبار المسؤولين في إسرائيل.
وذكرت لوموند بوصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحرب أمام الكنيست بأنها “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب” وبقول وزير الدفاع يوآف غالانت “نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس” مضيفا “نفرض حصارا كاملا على غزة. لا كهرباء ولا ماء ولا غاز، كل شيء مغلق”.
وتستشهد الوثيقة أيضا بصحفيين وضباط سابقين ومسؤولين منتخبين، دون سلطة على إدارة الحرب، إضافة إلى تعليقات وزراء اليمين الديني المتطرف الذين يواصلون الدعوة إلى التطهير العرقي في غزة.
ويرى معسكرهم السياسي في “طوفان الأقصى” والحرب الدائرة ما يسمونه فرصة تاريخية لتحقيق “الإرادة الإلهية” من خلال طرد الفلسطينيين من جزء من الأرض المقدسة.
ومع أن خطاب هؤلاء الذي يحمل إيحاءات إبادة جماعية، ليس خطاب الجيش ولا الحكومة، فإنه “لا النظام القضائي ولا السلطة السياسية عاقبت أولئك الذين يلقون مثل هذه الخطابات، مما يميل إلى تعزيز حجج جنوب أفريقيا” كما يقول بأسف المحامي الإسرائيلي والمدافع عن حقوق الإنسان مايكل سفارد.
ويطالب المحامون في جنوب أفريقيا أيضا بتمكين سكان غزة من الحصول على المساعدات الإنسانية دون قيود، في وقت خففت إسرائيل حصارها قليلا الأسابيع الأخيرة. وأخيرا، يطالبون بتمكين خبراء من المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومحققين من المحكمة الجنائية الدولية من دخول غزة.
ومع أن القضاة غير ملزمين بالتدابير التي طلبتها بريتوريا -حسب لوموند- ويمكنهم أن يقرروا رفضها أو إصدار غيرها وأنهم لا يتقيدون بأي موعد نهائي، فإن هذا النوع من القضايا تكون المداولات فيه سريعة، إذ لم يستغرق الأمر 9 أيام حتى أصدر القضاة في لاهاي أمرا ضد روسيا، في أعقاب شكوى قدمتها أوكرانيا بداية الغزو الروسي لأراضيها.
ولم تنضم أي دولة حتى الآن رسميا لجنوب أفريقيا، ولكن العديد من الدول شجبت الإبادة الجماعية، كالجزائر وبوليفيا والبرازيل ودول أخرى، حتى أن عوفر كاسيف النائب في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) وقع الشكوى مع 200 من الإسرائيليين، رغم أن الخارجية الإسرائيلية تقول إن “اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية لا أساس له من الصحة في الواقع والقانون، وهو أمر بغيض أخلاقيا” قبل أن تصفه بأنه “معاد للسامية”.
قلق إسرائيلي
وأشارت لوموند إلى أن إسرائيل هذه المرة لم تقاطع المحكمة، وعينت قاضيا خاصا في لاهاي، وهو الرئيس السابق للمحكمة العليا أهارون باراك الذي يحظى باحترام كبير، وهو أحد الناجين من المحرقة، وسيؤدي اليمين الدستورية بافتتاح جلسات الاستماع يوم الخميس، وسيكون بوسع جنوب أفريقيا تعيين قاض مخصص ثان.
وبعد يومين من جلسات الاستماع والقرار المرتقب للقضاة، يمكن أن تبدأ مرحلة إجرائية أكثر تقنية، يمكن لإسرائيل خلالها الطعن باختصاص المحكمة في هذه القضية، وسيتعين على جنوب أفريقيا وإسرائيل بعد ذلك تقديم مذكراتهما المكتوبة قبل تنظيم جلسات الاستماع بشأن الأسس الموضوعية.
من جانبها، ركزت لوتان على أن شكوى جنوب أفريقيا قد تكون مدمرة لإسرائيل، ورأت أن إثارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ هذه القضية -أمام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن- دليل على القلق المتزايد بين المسؤولين الإسرائيليين، خاصة أن له تصريحات تعتبرها بريتوريا تحريضا على الإبادة الجماعية، حين قال إن “الأمة (الفلسطينية) بأكملها هي المسؤولة” عن الجرائم التي ارتكبتها حماس ودعا إلى “كسر عمودها الفقري”.
وأشارت الصحيفة إلى أن اتهام إسرائيل بانتهاك المعاهدة -التي اعتمدتها أغلبية ساحقة من الدول عام 1948 في أعقاب الجرائم التي ارتكبها النازيون- ليس بالأمر السهل أن تتقبله إسرائيل، وهي تستعد لإثبات أن بريتوريا تستخدم القانون الدولي لتحقيق أهداف سياسية، خاصة أن جنوب أفريقيا تعرضت لتوبيخ شديد من قبل محكمة أخرى في لاهاي عام 2017 لرفضها اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير المتهم “بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب” في دارفور.