مع الإعلان عن فوز فيلم “أنورا” (Anora) للمخرج الأمريكي “شون بيكر” بالسعفة الذهبية، أثيرت التساؤلات حول قدرة شركة فتيّة وصغيرة مثل “نيون للتوزيع” على استشراف نجاح الأفلام في مهرجان كان السينمائي، فقد ظفرت بحقوق توزيع 5 أفلام توّجت كلها بالجائزة الأرقى عالميا في مجال السينما، استشعارا منها لإمكانياتها التجارية وتقديرا لها ولإنجازها الإبداعي.
وقد نشرت صفحات “نيون” على مواقع التواصل الاجتماعي تدوينات احتفالية منها صور للمخرجين الخمسة المتوجين، مع تعليق “فريق الأحلام”، ومنها صورة لأسطورة كرة السلة “كوبي براينت” حاملا كأس الرابطة الوطنية، وهو يرسم الرقم 5 بأصابع يده، مع تعليق “السعفة الذهبية للمرّة الخامسة.. شكرا لك مهرجان كان”.
تأسست شركة “نيون” (NEON) عام 2017، على يد “توم كوين” و”تيم ليغ”، اللذين أنشآ بالولايات المتحدة الأمريكية سلسلة قاعات السينما “ألامو دريفت هاوس”، المعروفة بالحرص على التزام سلوك مشاهدة نموذجي، يمنع تصرفات مثل الحديث أو كتابة رسائل على الهاتف.
تتخذ الشركة مدينة نيويورك مقرا لها، ويعمل فيها اليوم 55 موظفا، وهي تعِد جمهورها بأن تصبح من أنجح أستديوهات الأفلام الفنية رواجا.
“عملاق”.. شعلة النجاح الأولى في عهد النزعة التجارية
أثبتت الشركة الفتية مصداقية سياستها المستقلة في هوليود مبكرا، وبدأت تجذب الأنظار بموهبة القائمين عليها في رصد سيناريوهات جذابة وصناع أفلام متفرّدين، في عهد سيطرة النزعة التجارية المحضة على شباك التذاكر.
أصدرت الشركة الموزّعة أول أفلامها بتعاون مع “سباركل رول ميديا” الصينية التي يديرها الممثل الصيني الشهير “جاكي شان”. وكان الفيلم الأول هو “عملاق” (Colossal) للمخرج “ناتشو فيغالوندو”، وأدت دور البطولة فيه “آن هاثاواي”، وكانت تبحث عن أدوار في أفلام جريئة فنّيا ومختلفة عن السائد.
وسرعان ما حقّقت “نيون” نجاحا كبيرا في العام الموالي مع إطلاق فيلم السيرة الذاتية “أنا تونيا” (I, Tonya) للمخرج “كريغ غيليسبي”، الذي نال جائزة أوسكار عن فئة أفضل ممثلة مساعدة، وكانت من نصيب “أليسون جاني”.
“بونغ جون-هو”.. شراكة مع جهبذ كوري لا يفشل أبدا
بعد انتخاب “دونالد ترامب” رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، انسحب المستثمرون الصينيون، وحل مكانهم الملياردير التكساسي “دان فريدكين”. لكن حقوق الأفلام ظلت في يد مؤسس الشركة “توم كوين”، وقد تعاون عدة سنوات في عدد من أعماله مع المخرج الكوري الجنوبي “بونغ جون-هو”.
تبنى “توم كوين” هذه الشراكة بشدة، حتى أنه كان مستعدا للإفلاس من أجل هذا الرهان. يقول في حوار مع “هوليود ريبورتر”: صنع “بونغ” أفلاما رائعة خلال أكثر من 20 عاما، ولم يقدم فيلما سيئا قط. فظل يبني رصيدا ومعجبين في هذه الصناعة بشكل مطرد منذ عام 2000. مَهما كان ما سيشتغل عليه الجهبذ الكوري، فقد تعهّدت أن يخرج تحت علامة “نيون”.
كان فيلم “بونغ جون-هو” الموالي فيلم “طفيلي” (Parasite) الذي عُرض عام 2019، وقد خطف السعفة الذهبية في نفس العام، وغدا أول فيلم روائي طويل ناطق بغير اللغة الإنجليزية يفوز بأوسكار أفضل فيلم، وفتح أيضا الباب أمام الأفلام الدولية (التي كانت تُسمى “الأجنبية”)، لتحصد نجاحات تجارية جيدة في الولايات المتحدة.
عباقرة التسويق السينمائي.. سر صناعة سلسلة النجاحات الكبرى
كان “كريستيان باركس” -رئيس قسم التسويق في “نيون”- قد صرح لموقع “ديدلاين” حول إستراتيجية تسويق فيلم “طفيلي” بقوله: درسنا الطريقة التي أصدر بها “هيتشكوك “والمنتج “ويليام كاسل” أفلامهما، واستفدنا من ذلك لمنح الفيلم صوته الخاص. وعلى نهج هذين المعلّمين، كان ضروريا عدم الكشف عن أي حدث من “طفيلي”، أو الإفصاح عن أي تلميحات حوله في الإعلان الدعائي. فأحكمنا السيطرة لمنع التسريبات عن الفيلم، مع إقناع رواد السينما بتفرّد التجربة التي سيخوضونها، بفضل تفاصيل صغيرة.
هكذا، بدأت سلسلة انتصارات “نيون” في مهرجان كان. ومنذ ذلك الحين، أصبح موعدا رئيسيا في رزنامة المجموعة، وقد أنتجت فيلم “تيتان” (Titane) للفرنسية “جوليا دوكورنو” (2021)، قبل عامين تقريبا من فوزه بالسعفة الذهبية عام 2021.
كما فازت الشركة بصفقة توزيع “مثلّث الحزن” (Triangle of Sadness) للسويدي “روبن أوستلوند” (2022)، وقد حاز الجائزة الذهبية الأرفع في ذلك العام، ثم أعادت الكرّة مع فيلم “تشريح سقوط” (Anatomy of Fall) للمخرجة “جوستين ترييه” في 2023.
وقبل بضعة أسابيع، وضع الأستوديو يده سرا على الفيلم المتمحور حول أزمة الثقة والارتياب، التي تستبد بالنظام الإيراني، في ظل ظروف وملابسات احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2022 في طهران.
كان ذلك بعد أيام قليلة من فرار صانع الأفلام الإيراني محمد رسولاف، مخرج “بذرة شجرة التين المقدسة” (The Seed of the sacred Fig)، المتوج بجائزة استثنائية من لجنة تحكيم الدورة الـ77 من مهرجان كان.
استقطاب الأفلام المتوّجة للجماهير.. ظاهرة تقلب الموازين
تعِد شركة “نيون” جمهورها بأن تصبح من أنجح أستديوهات الأفلام الفنية رواجا، صحيح أن أغلب أفلامها التي فازت بالسعفة لم تحقّق نجاحا كبيرا في شباك التّذاكر، ما عدا فيلم “طفيلي” الذي جنى حوالي 263 مليون دولار أمريكي في جميع أنحاء العالم، و53 مليون دولار داخل أمريكا.
ومع ذلك فإن السعفة الذهبية لم تكن محط اهتمام رواد السينما من غير السينفيليين (الذين يبدون في نهم دائم للصور والمشاهد)، إذا ما استثنينا أفلاما قليلة معروفة، مثل فيلم “خيال رخيص” (Pulp Fiction) للمخرج “كونتين تارانتينو” (1994)، وفيلم “فهرنهايت 9/11” (Fahrenheit 9/11) للمخرج “مايكل مور” (2004).
كل هذا وهي الجائزة الأولى في أرقى مهرجان سينمائي في العالم كله، ومع ذلك فإن الأمور تبشر بالتغيير هذه الأيام.
وقد قال “توم كوين” مؤسس “نيون” لموقع “ديدلاين”: لقد رأينا على مر السنين أن السعفة الذهبية أصبحت تعني الكثير في نظر عشاق السينما الشباب. وحين نعود إلى فيلم “طفيلي”، نجد أن فوزه بالسعفة الذهبية في المرتبة الخامسة كان من الأسباب التي دفعت الناس لمشاهدته. واليوم كان الدافع الأول الذي يُفسّر قدوم الناس للعرض التجريبي لفيلم “تشريح سقوط” في بوربانك هو فوز الفيلم بالسعفة الذهبية.
اقتناص الأفلام والمبدعين.. رحلة الصيد السنوي في مهرجان كان
في حديث لـ”سكرين ديلي” عن نهج “نيون” في اقتناء الأفلام، قال كبير المشترين “جيف دوتشمان”: ما يهمنا هو الأفلام النادرة والفريدة من نوعها، بما يكفي لاختراق الضوضاء، ودفع الناس إلى مغادرة منازلهم نحو السينما. وهذه القاعدة الوحيدة التي نطبقها في كل ما نقوم به.
يحل “دوتشمان” وسبعة مشترين من فريقه بمهرجان “كان” في كلّ عام، ليقابلوا الممولين، ويستكشفوا المواهب الواعدة، ويشتروا الفرص الجيدة، وقد تمكنت الشركة هذا العام من حيازة حقوق توزيع فيلمين فرنسيين.
الفيلم الأول تعاون جديد مع المخرجة “جوليا دوكورنو” في عملها القادم “ألفا” (Alpha)، والثاني فيلم “المجهول” (The Unknown) من تأليف وإخراج “آرثور هراري”، وهو رفيق “جوستين ترييه” الذي شاركها في كتابة فيلم “تشريح سقوط”.
بالإضافة إلى فيلم الرعب “القرد” (The Monkey) الذي كتبه “ستيفن كينغ” عن رواية له بنفس العنوان، وإخراج “أوز بيركينز”.
“نيون”.. رهان مستقبلي لكسر الأقدار الوهمية في السينما
تشتهر “نيون” بمناصرتها لتجربة مشاهدة السينما في الصالة. يقول كبير المشترين “جيف دوتشمان”: إنها نظرة منعشة مدعومة بالعمل، في وقت يتناقص فيه عدد الموزعين المستعدين للمجازفة بالرهانات الكبيرة. لا توجد طريقة أفضل لزيادة جمهورك إلى أقصى حد، من خلق أهمية ثقافية للمشاهدة الجماعية، وتحقيق مكاسب مالية في آن واحد.
وتتطلع “نيون” اليوم إلى توسيع أعمال توزيعها على المستوى الدولي، واستكشاف فرص جديدة في التلفزيون والبث التّدفّقي (منصات العرض على الإنترنت). وتخطط أيضا لاستخدام أي فائض ينجم عن نشاطها، لتعزيز أعمالها الإنتاجية المتفرّدة.
ولعلها بذلك تشكل مثالا يُحتذى به في مجال السينما المستقلّة، وأملا في وجود هامش تطوّر للأستوديوهات الصغيرة المراهنة على الفرجة الجماعية والأعمال المتطلّبة فنيا، في زمن صارت فيه هيمنة أفلام التيار السائد وديكتاتورية العروض التدفقية للشركات الكبرى، تبدو قدرا لا سبيل للفرار منه.