تعاني مصر – منذ عقود – من مشكلة مزمنة استعصت على الحل البرلماني ، تخلص تلك المشكلة فى ثبات بعض القوانين القديمة التى اصبحت غير صالحة.
ومن القوانين التى فقدت صلاحيتها منذ زمان غير قريب ،تلك القوانين الاستثنائية التى تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر والتى صدرت فى سبعينيات واوائل الثمانين من القرن الماضي، ونقصد هنا قانونين بالذات هما القانون رقم 136 لسنة 1981 والقانون رقم 47 لسنة 1977 .
بداية ننوه الى ان القانون المدني الذى صدر عام 1948 ، قد نظم العلاقة بين المالك والمستأجر ، بصورة عادلة تماماً ، وكان مبدأ (( العقد شريعة المتعاقدين)) هو الاساس الذي يحكم العلاقة بين طرفي اي عقد بما في ذلك عقد الايجار ، وترك القانون المدنى للمالك والمستأجر حرية تقدير القيمة الايجارية، وترك لهما حرية تحديد مدة الايجار ، بل ان القانون المدني قد اعتبر مدة العقد ركنا من اركان عقود الايجارات ، فلا يسقيم العقد المؤبد ويعتبر باطلا .
غير انه فى حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، صدرت تشريعات استثنائية عطلت احكام القانون المدني، وعطلت مبدأ سلطان الارادة ، حيث تدخل المشرع بوضع قيود على المالك للسيطرة على مشكلات اجتماعية واقتصادية كانت قائمة فى تلك الحقبة التى عانت منها البلاد من الحروب المتوالية التى خاضتها مصر، وما نجم عن تلك الحروب من تهجير ونزوح لسكان ثلاثة محافظات كاملة ( السويس ، الاسماعيلي، وبور سعيد ) لباقي محافظات الجمهورية ، وخاصة القاهرة الكبرى والاسكندرية.
فضلا عما تقدم، شهدت مصر – خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي – تغيرات اقتصادية وسياسية واشعة ، كان من شأنها التأثير في وضع الإسكان في مصر وأسعار الإيجارات؛ حيث شهدت فترة الستينيات حركة تأميم واسعة ونقل ملكية العديد من العقارات إلى الدولة، وإعادة توجيه الموارد نحو الإسكان الشعبي والخدمات الاجتماعية. غير ان تلك الفترة شهدت- ايضا – زيادة سكانية رهيبة ؛ الأمر الذي ادى الى تعاظم الطلب على الوحدات السكنية وضعف المعروض من الوحدات السكنية.
تلك الظروف الاستثنائية دعت المشرع الى التدخل باصدار قوانين استثنائية لتغليب مصلحة المستأجر على مصلحة المالك، ومنع الملك من استغلال ازمة الاسكان، من خلال وضع اسباب محددة لاخلاء المستأجر ( ليس من بينهاء انتهاء مدة الايجار ) ، وامتداد العقد لكل من له صلة بالمستأجر بصورة غريبة ، كالمساكنة والاقارب وشريك المستأجر وغيرهم من الفئات، وتحديد القيمة الايجارية وربطها بنسبة محددة من ثمن الارض ، وتجريم تقاضي خلو الرجل ، وغيرها من القواعد الاستثنائية .
بمرور الزمن اصبحت تلك القوانين – الاستثنائية – غير عادلة ، حيث سببت تلك القوانين مشكلتين فى غاية الخطورة ، وهما مشكلة توريث عقد الايجار دون حد زمني محدد، ومشكلة ثبات القيمة الايجارية.
ورغم ان تغيير القوانين البالية وتعديلها اختصاص أصيل للمجلس النيابية المنتخبة ، الا ان الواقع العملي اثبت ان هذا الدور لا يفعل الا اذا كان هناك محفز خارجي يدفع المجالس النيابية الى الاضطلاع بدورها فى شأن مراقبة مدى صلاحية القوانين القديمة.
المراقب لتطور هذا الملف يمكنه ان يلاحظ ان المحكمة الدستوررية العليا ” كانت هى الفاعل الاساسي فى تحريك هذا الملف نحو تحقيق العدالة، حيث اصدرت المحكمة الدستورية العديد من الاحكام التى قضت فيها بعدم دستورية فقرة تلو الاخرى فى مواد القانون 136 لسنة 1981 والقانون رقم 47 لسنة 1977 ، وذلك لخلق نوع من التوازن فى العلاقة بين المالك والمستأجر، ومن ابرز تلك الاحكام الدستورية فى هذا الشأن الاحكام التى حددت فئة من الورثة دون غيرهم ليحق لهم الامتداد ولمرة واحدة ، والحكم الذى انهى الامتداد للشخص المعنوى ، وغيرها من الاحكام.
أخيرا : أصدرت المحكمة الدستورية العليا في نوفمبر 2024 حكمًا تاريخيًا ، كان بمثابة الزلزال الذى هز سلطان قوانين الايجارات الاستثنائية البالية، حيث قضت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادتين الأولى والثانية في القانون رقم 36 لسنة 1981 المعروف بقانون الإيجار القديم ، فيما تضمنته المادتين من ثبات القيم الإيجارية السنوية للأماكن المرخص إقامتها لأغراض سكنية، ودعت المحكمة الدستورية – فى حكمها – مجلس النواب إلى اصدار التشريعات اللازمة لتعديل هاتين المادتين قبل انتهاء الفصل التشريعي الحالي.
وقد استندت المحكمة الدستورية – فى حيثياتها – الى أن ثبات القيم الإيجارية عند لحظة من الزمان ثباتًا لا يزايله مضي عقود على التاريخ الذي تحددت فيه، ولا تؤثر فيه زيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة السنوية – يشكل عدوانًا على قيمة العدل وإهدارًا لحق الملكية حيث حدد القانون سقفًا لزيادة الإيجار السنوي عند 7% من قيمة الأرض عند الترخيص، والمباني طبقًا للتكلفة الفعلية وقت البناء.
ومن استقراء حيثيات الحكم ، أكدت المحكمة أن النصين المطعون عليهما قد حظرا زيادة الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن اعتبارًا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون على 7٪ من قيمة الأرض عند الترخيص، والمباني طبقًا للتكلفة الفعلية وقت البناء، وهو ما مؤداه ثبات القيمة الإيجارية عند لحظة من الزمان ثباتًا لا يزايله مضى عقود على التاريخ الذي تحددت فيه، ولا تؤثر فيه زيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة السنوية، واضمحلال عائد استثمار الأعيان المؤجرة بما يدنيه من العدم، وهو ما يشكل عدوانًا على قيمة العدل وإهدارًا لحق الملكية.
ومن ثم قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية هذين النصين ، غير انها أعملت الرخصة المخولة لها بمقتضى المادة (49) من قانونها وحددت اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي الحالي لمجلس النواب تاريخًا لإعمال أثر حكمها؛ وذلك لحاجة المشرع إلى مدة زمنية كافية ليختار بين البدائل لوضع ضوابط حاكمة لتحديد أجرة الأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن الخاضعة للقانون رقم 136 لسنة 1981.
دور البرلمان :
يترقب الملاك والمستأجرين – عن كثب – التشريع المزمع صدوره من مجلس النواب بشأن البدائل لوضع ضوابط حاكمة لتحديد أجرة الأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن الخاضعة للقانون رقم 136 لسنة 1981.
حيث يأمل الملاك فى ان يتضمن التشريع قواعد من شأنها تحقيق العدالة الاقتصادية ، بأن تزيد القيمة الايجارية لتصبح معادلة تماما لاجرة المثل فى الوقت الحالى ، وازالة ونسف الفجوة بين قيمة ايجار الوحدة الخاضعة للقوانين القديمة ، وبين نظائرها فى ظل القانون المدني الحالى، ويتمنى ان يتم تحديد القيمة الإيجارية بناءً على القيمة السوقية للوحدة،على سبيل المثال، إذا كانت قيمة الشقة مليون جنيه، قد يُحدد الإيجار بنسبة معينة من هذه القيم، غير ان هذه الطريقة تصادفها عقبة عملية غير هينة ، وهي كيفية تقييم قيمة الوحدة ؟ ومن الذى سيقوم بهذا التقييم ، وهل تملك الدولة الادوات والوسائل للقيام بهذا الدور؟
إن الامل يحدو بفئة كبيرة منهم أن يتناول التشريع المنتظر تحديد مدة محددة انتقالية تنتهي بعدها كافة العقود المحررة فى ظل القوانين الاستثنائية ويطرد المستأجر، وهو ما نرى انه امل صعب المنال. حيث اننا نعتقد بان المشرع لن يصدر الا تعديلا طفيفا على القانون 136 لسنة 1981 يتضمن زيادة القيمة الايجارية الحالية بنسبة محددة من القيمة الايجارية الحالية ، وزيادة دورية بنسبة محددة .
فى الوقت نفسه يأمل المستأجرين ان يكون التشريع متوازنا ، وان تكون الزيادة المقررة طفيفة لا تمسهم بسوء.
خاتمة القول: نتمنى ان تكون هناك الية تشريعية لمراجعة كافة القوانين الاستثنائية، بل كافة التشريعات القديمة ، والغاء او حتى تعديل ما يكون غير مناسب للعصر الحالي، ونتمنى ان يتدخل المشرع لانهاء القوانين الاستثنائية التى تنظم علاقة المالك بالمستأجر بشكل جزرى، بشكل يضمن للمالك حرية التصرف فى ثروته العقارية ، ويحفظ للمستأجر كرامته وتيسير سبل حصوله على مسكن بديل مدعوم من الدولة، على غرار ما تقوم به الدولة فى شأن مستأجري العقارات منزوعة الملكية.